الخميس، 26 يوليو 2012

محمود درويش بين سليم بركات وادوارد سعيد : الترجمة الشعرية للآخر


محمود درويش بين سليم بركات و إدوارد سعيد: الترجمة الشعرية للآخر

عبد الله البياري

http://www.alghawoon.com/mag/art.php?id=815

بما يبدو العنوان في بدايته مألوفاً، حيث الآخر صوتٌ جلي في كتابة الذات، في الذات نفسها، وأن عملية التصدي لها، مثلما هي عملية القيام في التعبير عنها، ممارسة يوميّة، أو دائمة، صراحة أو ضمناً، وأن إظهار العلاقة هذه، تعميق لخاصّيّة الذات، هذه التي لا تعدو أن تكون من جهتها، وجهاً من وجوه الآخر بالمقابل، طالما أن كلاً منّا، هو آخر ما، حتى بالنسبة إلى ذاته، عدا عن كونه الذاتَ التي تعنيه، في ما يقول ويكتب، يفسّر ويؤول، يحسم أو يتكتّم عليه، يمانع أو يقاطع دون التخلص، أبداً، مما يعتبَر، دور الذات للذات، إزاء الحالات التي تعيشها، وبصيغ شتّى.
وفي حيّز العلاقة ذاتها، وهذه متعدّدة ومتنوّعة، تكون الترجمة، عتبة مناظرة ومغامرة قوليّة، لا تعمل على احتواء الآخر، عبر ترجمة نصّيّة، أو شفاهيّة ما، وفي مجال ما، إنما تفصح عن خاصّيّها المعينة، في مسلكيّة توعيتها الذاتيّة، في استراتيجيّة الموقف مما يحيط بها، والآخر يستشرف عتبتها القيميّة، مثلما يجلو موقعها الرمزيّ، مثلما يكون أفق رؤيا، أي أن ثمة منطقة ما، تشكّل حقلاً لصراع الرؤى، الدلالات، قيامات الرموز، متشابكة، بين صاحب الذات والآخر.
العنوان الآنف الذكر، يتحدّد بالمتضمَّن فيه (محمود درويش بين سليم بركات وإدوارد سعيد)، حيث الترتيب هذا، هو من خلال العلاقة التاريخيّة، وليس التفضيل الرمزيّ، إذ الأول شاعر وروائي كردي أصلاً، صاحب التوأم اللغوي: النثر والشعر، وأثير عند الشاعر الفلسطيني درويش، وقد عمل سكرتير تحرير مجلة "الكرمل"، تلك التي كان الأول مسؤولاً عنها، لقرابة عقدين من الزمن، ونشر فيها الكثير من نصوصه الشعريّة والنثريّة. فالعلاقة هذه، زمنيّة، مثلما هي مكانيّة، وكذلك وجدانيّة، ومن وجهة نظر معيّنة، يتكفّل الشعر بالتعبير عنها، بترجمة حراكها الدلاليّ المرصود، بينما إدوارد سعيد، فهو مفكّر وناقد فلسطيني متأمرك معروف، والصلة بينهما موطنيّة موحّدة، وفي الوقت نفسه، تكون سياسيّة ووجدانيّة، من جهة النظر في ما يجري فلسطينيّاً، وفي محيط التآخذ الفكري والأدبي العام كذلك، ودرويش هنا له علاقات كثيرة، في صفته شاعراً صيتيّاً، كما هو معروف بدوره، مع الكثير من الأشخاص ذوي المكانة السياسية والأدبية والفكرية، والعاديين أيضاً، وكتب عن هؤلاء من منظورات نفسيّة، ذاتيّة مختلفة في مآلاتها الأدبيّة، في أمكنة تتفاوت تأثيراتها، أو حضوراتها الدلاليّة أو المفهوميّة فيه.
وما كتبه عن سليم بركات وإدوارد سعيد، علائقيّ تماماً، مثلما هو وضع ترجماني لهذه العلائقية المركّبة من الداخل، حيث خصّ كلاً منهما بقصيدة لم تسمَّ باسمه، وإنما جاءت إهداء، لكنه مخاطَب من خلالها، وهو معنيّ بقوله، الأوّل، في ديوانه "لا تعتذر عما فعلت"، سنة 2004، والثاني، في ديوانه "كزهر اللوز أو أبعد"، سنة 2005. وكذلك، فإن بنية السرد في الأولى تكون أقلّ حوارية من الثانية، إنها وصفيّة، حيث الوصف يحيل الآخر على مادّة أو موضوع، يتشكّل في المصهر النفسيّ للشاعر، ويكون الآخر أقرب إلى الغياب، في سياق التتابع الجمليّ، أو مكوّنات الحدث الشعريّ، منه إلى الحضور، لأن السارد هو درويش، وهو الحاضر بخطابه، ذي الدلالة السلطويّة الرمزيّة طبعاً، ونادراً ما يخرج خطاب المتكلّم: درويش، مسلِساً القياد للآخر ليتكلّم هو، في ضرب حواريّ، طالما ناصية الكلام بيده، تعبيراً آخر، عن ترك المجال مفتوحاً أكثر، ليبرز هو، أكثر اقتداراً، قرباً من ذاته، كما هي لغة ضمير "الأنا" للشاعر العربي هنا.
أما بنية السرد في الثانية، فتتشعّب، أو تتوزّع بين ناطقة بلسان السارد، ولسان الآخر: الغائب الحاضر، أو الراحل، مظهِرة مدى توق الشاعر إلى هذا الآخر: الداخل في ذاته، ومثلما تتّخذ اللغة مظهراً من مظاهر الاتفاق أحياناً أخرى، في المزج الحواري، مع بقاء صوت الآخر جليّاً، وما يعنيه هذا الحضور البثي من قيمة دلاليّة، على صعيد أفق الرؤية والمعتقد الذاتيين، حيث تشكّل مساحة الأولى أقلّ من ثلث مساحة الثانية، من جهة عدد الصفحات (6 مقابل 18)!
ولعلّ التوقف عند هذين النصّيّن، إجراء ثقافيّ قبل كلّ شيء، وليس نقداً أدبيّاً فقط، لأن قراءة القصيدتين، تتجاوز حدود النصّين، حيث أنهما، في أساسهما، عبارة عن قراءة ما، في قراءة ما، أخرى، لكلّ منهما، لبركات وسعيد، بطريقته الخاصّة، وجاءت القراءة الشعريّة، من خلال جملة من الإحالات المكانيّة والزمانيّة، وكذلك تيمة التحويل القيميّ لذات كلّ كاتب. إنها إحالات، لا تكتفي بتقديم صورة شعريّة، وصفيّة، هي أفق جماليّ مرئيّ للشاعر، هندسيّ الأبعاد قطعاً، في الفكرة القائمة، إزاء خاصّيّة كلّ علاقة مختلفة، إنما تواجه ذات الشاعر شاعرَها، في ما تقرأه في الموسوم، مما يعنيه سلوكاً مستطرَفاً أو مستظرفاً، وفي ما يميّزه مكانة كلمةٍ، ومدىً لها.
يعني ذلك، أن قراءة القصيدتين، هي في غاية الفقر وضحالة المعنى، إن لم تمتدّ إلى بعض مميّز لكلا الكاتبين، وكيف أن القراءة هذه، في تنوّع روافدها المحيطيّة، تشكّل وضعاً ثقافيّاً لدرويش الشاعر المتفكّر على طريقته، أو المتفكّر الشاعر بطريقته إجمالاً.
والميزة اللافتة هنا، أيضاً، تتلخّص في النقاط الآتية:
كيف يمكن سبر علاقة الشعر بالشعر والرواية والفكر؟ كما لو أن الشعر يعلن عن سفارته المتحرّكة في ذات الآخر، وهي سفارة أدبيّة رحّالة، طريفة بمعماريّتها هذه المتنوّعة المقاسات، وكيف تكون واجهتها، فلتة الإكساء التعبيريّ للواجهة هذه، فتنة المنظور الجماليّ لها، والتي تكون معتقديّة، مثلما تكون فنيّة بالمقابل، كما هي سفارة فكريّة، لا تبقي درويش مجرّد شاعر، إنما متدبّر تفكير في التعبير الشعريّ، وما في الإجراء هذا، من استشراف هاوية النظر، أو مخاطر الوقع في المباشرة المفقِرة لروح الشعر الهرمزيّة.
ما الذي يثار في علاقة شاعر، له حضوره الشعري، في حيّز العلاقة المركّبة هذه؟ أي قيمة أدبيّة مشتركة، يمكن استشفافها، في العلاقة الشعريّة غير الثابتة، غير المحدّدة هذه كعادتها؟ حيث الأوّل ما زال يحيا، بينما الآخر مضى على رحيله سنوات ثلاث. أكثر مما تقدّم، أي صنافة أدبيّة، جماليّة، قيميّة، كائنيّة اعتباريّة، يمكن تشكيلها، أو بنرمتها (من البانوراما) ثقافيّاً هنا؟ حيث الأوّل، وهو بركات، كردي، كما ذكرت، ومعروف ككاتب كبير يكتب بالعربية، بينما سعيد، فقد كان متأمركاً، ولا يتوقف عن التذكير بفلسطينيّته، عدا انشغالاته بمستجدّات العالم والمنطقة، على صعد شتى، وهو معروف بالانكليزيّة طبعاً؟
أظنني، للأسباب السالفة الذكر، أردت كتابة عنوان، يتوضّح في ثالوث علائقي، هو في الأساس، ثالوث شعريّ درويشيّ، لا دخل للكاتبين فيه، إنما هو دخل المُؤتى الأدبي الرمزيّ تحديداً.
ولعلّي، في موضوعي هذا، أمارس ترجمة أخرى، علائقيّة بدورها، وأنا، أسعى جاهداً، وفي حدود المتاح، إلى مكاشفة ثقافيّة للحراك الأدبيّ، وحتى عنف المنظور، لنصَّيْ درويش.






استنطاق العنوان
لا يمكن الحديث عن القصيدتين المتتاليتين هنا، "ليس للكرديّ إلا الريح" و"طباق"، إلا باعتبارهما نصّين متجاورين، إنما هما متداخلان أيضاً، إلى درجة كبيرة، حيث قراءة أي منهما، تلقي ظلالاً على الأخرى، مع حفظ اللقب التاريخيّ للأولى، لأسبقيتها كتابة، لكن من دون نسيان فضيلة الثانية، في استنارة المعلم الأدبيّ والرمزيّ للسالفة.
أما عن إبراز وجه الصلة بين كلّ قصيدة والعنوان العام للديوان، ففيه الكثير من المماحكة، وإزاحة المعنى الممكن الإطمئنان إليه، ولو قليلاً، ولو أن شيطان المعنى الموسوس هذا، يهمس بذكر أصداء من الدلالات الحافّة، حتى إن بدت ذات نسب يوتوبي.
في "ليس للكردي إلا الريح"، ترتبط القصيدة بالديوان، بعنوانه العام "لا تعتذر عمّا فعلت"، حيث ثمة قصيدة تحمل هذا الاسم ضمناً، وتلقي ضوءاً على جانب ما، من السيرة الذاتية لدرويش نفسه، عن موقفه، عمّا يحسّ ويشعر، عمّن يتعامل ويستأثر باهتماماته... إلخ، وللمرء القارىء أن يسأل، عن صلة المفردة الواردة في قصيدة بركات عن درويش وباسمه (محمود درويش)، في ديوانه "البازيار"، أي عاشق الباز، وهي "فلتعتذر"، في السياق النصّيّ، كما سنرى، إضافة، إلى إحالات أخرى ضروريّة، ومثيرة، تبرز علاقة درويش ببركات كشاعر وكنصّ أيضاً، وأن مفردة "الريح" ذاتها، تشغل درويش، مثلما تستثير بركات كثيراً جدّاً، كما سنرى كذلك، وكيف أن اعتماد الريح يبقى مختلفاً من جهة التدوير، أو الاستقدام، لاختلاف خاصّيّة كلّ منهما. أما في "طباق"، فهي، في حقيقتها، تشكّل عنواناً للحلقة الرابعة، من عنوان شعري، أو قيّض له أن يكون شعريّاً، وهو "منفى"، وهذه مفردة أثيرة عند درويش، نظراً لمحوريّة العلاقة، مثلما أن فلسطينيّه المتأمرك، يعاني منها، وقد كتب عن المنفى كثيراً، إنما المؤثّر بالمقابل، هو أن العنوان الفرعي "طباق"، يشكّل تيمة فكريّة وثقافيّة ساخنة بمضمونها، عند سعيد، في كتابه الغنيّ عن التعريف "الثقافة والإمبرياليّة"، نوعاً من التعدّديّة، والتكامل الأعراقيّ والحضاريّ بين الشعوب، وهو ما كان يشدّد عليه، من خلال مفهوم (الهجنة hybrid)، بين الثقافات المختلفة، وقد طبّق المفهوم هذا، في دراسته للكثير من النصوص الأدبيّة والسياسيّة والفكريّة وغيرها عالميّاً. أي أن درويش عالم تماماً، بأصدائيّة المفردة، ودون أخذ العلم بوضع متلبّس كهذا، لا يمكن التعرّف إلى الهاجس الشعريّ عنده، وكيف تُستقى مفرداته التي هي صلات وصل ثقافيّة. وكذلك، فإن النصّ الفرعي، يندرج في حيّز عنوان عام، وهو "كزهر اللوز أو أبعد"، وثمة عنوان لقصيدة لها دلالتها المكانيّة والرمزيّة، هي "لوصف زهر اللوز"، لا أظنّها بعيدة كثيراً، عن المهاد السيري لدرويش، خصوصاً إذا علمنا، مدى صلة زهر اللوز بمرموزه، بالقدسيّ والعذريّ معاً، وبأبهاء المكان فلسطينيّاً تماماً، كما سيتضح ذلك لاحقاً. وما يجب التذكير به هنا، أخيراً وليس آخراً، هو ورود اسم الإهداء ترتيباً، رغم أن كلاً منهما، كانت الأخيرة ترتيباً في الديوان، دون نسيان المساحة المختلفة لكل منهما (ست صفحات ونيّف، تلك التي تخصّ بركات، وثماني عشرة صفحة ونيف، تلك التي تخصّ سعيد)، وكيف أن بنية اللغة تختلف كثافة وعمقاً، وبحسب طبيعة العلاقة بالتأكيد.
تأتي كلمة الإهداء إلى بركات، ليس بعد عنوان القصيدة، حيث خصّصت صفحة كاملة له، إنما في الصفحة التي تسلسلت القصيدة فيها، ومن جهة اليسار، والحالة الثانية مختلفة، أي في ذات الصفحة المخصصة لعنوان القصيدة الفرعي، وأظن أن لأمر الترتيب دلالته النفسيّة والموقعيّة أيضاً، حيث أن بركات يحال على ذات القصيدة، داخلاً، بقدر ما يبقى العنوان مفتوحاً للتأويل، وهو تأويل لا يحسن صنعة مقاربته الدلاليّة، إلا من اطّلع على مكانة الريح بركاتيّاً، وما يرتدّ إلى المضمر في بركات كرديّاً، وكما هو مقروء شعريّاً، من لدن درويش الشاعر هنا، فالعنوان متروك لحاله، أي إنه يشكّل عتبة نظر مفتوحة على أكثر، في أكثر من أفق معنى، خصوصاً، بالنسبة إلى من لم يحط علماً هرمنوطيقياً، بمفهوم الريح العام والخاصّ.
بينما ترد كلمة الإهداء مباشرة، إلى سعيد بعد العنوان الفرعيّ، ليكون سعيد عتبة رؤية لخاصّيّة العنوان هنا، وليس ملحقاً بالقصيدة تحديداً، من خلال حالة الوصل، وبالتالي، فإن القراءة الحجاجيّة، مثلما هي التكهنيّة، تستبق المعنى المستخلص من القصيدة، عبر الممكن تأويله داخل العنوان، هذا الذي يترذرذ في المساحة المخصّصة للقصيدة.
يغدو اسم سعيد إذاً، أشبه بعلامة فارقة، خلل العنوان، بينما، اسم بركات، فهو مارقة في مفترق القصيدة، أو في البرزخ المكاني والفراغي الفاصل بين العنوان وشروع القصيدة.
هل أبالغ هنا، إذا قلت، حتى الآن، إن بركات، يتحرّك في وعي درويش جزئيّاً، وهو مقدّر كحامل رمزيّ لمن يمثّل أجناسيّاً (باعتباره كرديّاً)، وفي ضرب من البلاغة المرتدّة إلى الوراء، تكون جغرافيّتها شائهة، بينما سعيد، فهو يتحرّك في مساحة وعي أكثر صلابة ووساعة وانهمام مغزى، وهو مقدّر بدوره، لكن كحامل رمزيّ مقدام، وهو في رحيله، وفي ضرب من القول أكثر انفتاحاً على النثر المفكّر فيه، هذه المرّة، تكون جغرافيّته فارهة، لوضع علائقي محتسب؟‍‍...

التفعيل الأدبي والثقافي
كيف قدّر لدرويش أن يكتب قصيدتيه هاتين، وفي زمانين مختلفين، وربما في مكانين مختلفين أيضاً؟ حيث يكون تداخل في الصور، مثلما هو تشابه في القيمة الممكن استخلاصها‍... التعبير عن المنفى، ومأزق الهويّة، ومعاناة الهويّة، ومقاضاة المكان، رغم اختلافه، وفعل التثنية اللغويّة، وبراعة التعبير باللغة الأخرى (العربيّة بركاتيّاً، والإنكليزية سعيديّاً)، والكثير من الشلال الوصفي... يكاد يربك القصيدة بالذات، يمَأزق روح الشعر ذاته، والكلمات في بعض حالاتها، وهي مؤثّرة، تنكر شاعريّتها، وخصوصيّة اللقيا الفنّيّة فيها، من خلال واجهة استعراضيّة فيها، وخصوصاً بالنسبة إلى المذكور به، عن سعيد، وكأن درويش لم يكتب "طباق"، إلا وكانت "ليس للكردي إلا الريح" ماثلة أمام ناظريه، أو مفتوحة على المنضدة أو مرئية نصّاً... لنلاحظ جيداً:





...
ما يعنيني كباحث، وفي حيّز دراستي لتينك القصيدتين، هو هذا التفعيل الأدبي والثقافي، كيفية تجلّي شخصيّة درويش كشاعر، وهو يحاول قراءة اسمين، لهما موقعهما الاعتباري عنده، ووفق تصوّر مختلف، لاختلاف كلّ منهما، وهو اختلاف يمتدّ في أكثر من جهة.
ولعلّي أستطيع القول هنا، بداية، على أن الزخم الشعريّ في النصّ الخاص ببركات، أكثر أهليّة بالشعر، بينما هو أقلّ في الجانب الآخر، إذ تطغى اللغة النثريّة، أعني اللغة اليوميّة العاديّة جداً، في مقاطع متعدّدة، ولا يجنّبها الانجراف في العاديّة، أو الاصطفاف خارجاً، وبعيداً، عن كل ما هو شعريّ، كما هو متداوَل، إلا الوزن الذي يوليه درويش أهمّية، هي ذاتها الأهمّية التي تبقي الذاكرة الجمعيّة، مخلصة لأهبة تراثيّة، لأذن جمعيّة ما، تحافظ على شعرة معاوية، في اللحظة الأقصى من إزاحة القول، عندما يتبدّى كأي قول مشاع، وشفيعه الوزن، يؤمّن الشعريّ له.
ثمة نقطتان، عليّ توضيحهما هنا، تترتّبان على موقف درويش من النثر والشعر معاً. في العلاقة بينهما يقول: "عندما كنت أكتب نثراً كنت أشعر أن النثر يسرق مني الشعر، فالنثر جذّاب وسريع الانتشار، ويتحمّل أجناساً أدبيّة أكثر من الشعر. ويستطيع أن يهضم الشعر ويعطيه مساحة وحركة أكبر. وكنت عندما أكتب النثر أنتبه إلى أنني نسيت القصيدة، وأن عليّ أن أعود إليها. هكذا أكون بين النثر والشعر، لكنني معروف بأنني شاعر ولا أسمى ناثراً"(1). هذا الاعتراف، أظنّه، يحمل في تضاعيفه النثريّة، ما لم يُسمَّ، وهو أن الشعر، في المظنون الدرويشيّ، يهبه قيمة توكيديّة أكثر، هي ذاتها القيمة التي تفعّله جماهيريّاً، القيمة التي تبرزه الشاعرَ المرتبط بمن كانوا رموزاً ذوي صيت سابقاً، إنه الشاعر المتحرّك في متن المعنى الملتهب من روحيّة القصيد العربي، روح الشعر الذي يحرّك وجدانات المحيطين به وقوفاً، كما تقتضي لغة المكان، والظرف التاريخيّ، وتحوّلات اللحظة التاريخيّة، وموقع الشاعر، ونظرته إلى نفسه، وليس التحرّك على خط التّماس إن جاز التعبير، إذ النثر العربي، إذا كان متناً في شأن من شؤونه المستوجبة والمطلوبة، نثر القراءة، النثر الصالونيّ، والنثر الاعتباريّ الموجّه، ليبقى الشعر خارج حاضرته، فإن الشعر، رغم كلّ المهدّد له سلطويّاً، ظلّ مراح الشاعر، روحه الطلقة في التشبّث بمداه المفتوح جهويّاً، عصيانه على الهضم نثريّاً، كما هو التعبير الجسديّ، في مفهوم الهضم: الاجتياف نفسيّاً، وتبديد هيئته، وليكون الخوف من النثر، هو حرص الشاعر على ذاته المغايرة، قدرته على الذات، وهي تستقطب جماهيرها، قرّاءها أكثر، كما هو متصوّر، عبر مسعاه، في نزع فتيل العنف داخل النثر المعهود، وتأميم توهّج الشعريّ، كما يفترَض، بلعبة تصوير جماليّة، يكون الوزن مفيّزها، لتُدرَك شعراً لا نثراً.
في النقطة الثانية، حين يقول صراحة: "أحب الموسيقى في الشعر. إنني مشبع بجماليات الإيقاع في الشعر العربي. ولا أستطيع أن أعبّر عن نفسي شعرياً إلا في الكتابة الشعرية الموزونة، لكنها ليست موزونة بالمعنى التقليدي. لا... إلخ"(2).
هذا مؤكَّد!، لكنه التأكيد نفسه الذي يلفي على مسمّاه، وليس على اسمه طبعاً، عندما يكون المسمّى بؤرة توتر، ضاجّة بالمعاني، ويتلمّس الشاعر في نفسه، حركة آبائية معينة، ليس في معنى التقليد، أو المحاكاة (محاكاة خلف لسلف)، وإنما الشعور بوجود سلف ما، أب ملحوظ، هو المعيّن له، ومعِينه، فيما يستشعر، تحرّكاً نحو رؤية أكثر شفافيّة وديمومة، بالإيقاع، هذا الذي يبرز قيَّاف المسافات، محصيها رياضياً، محصّن النصّ الشعريّ، بنقاط حراسة، أو نقاط علاّم، في توافق القوافي، أو تتالي الحركات المتوازية هارمونيّاً، عدا مباغتة الجديد حداثيّاً. أوَليس هو القائل، في القسم الأعظم من ديوانه "لا تعتذر عما فعلت"، والمعنون بـ"في شهوة الإيقاع"، ومن خلال عنوان فرعي لافت أكثر "يختارني الإيقاع"، ما يؤكّد المشار إليه؟:
"يختارني الإيقاع، يشرق بي
أنا رجع الكمان، ولست عازفه
أنا في حضرة الذكرى
صدى الأشياء تنطق بي
فأنطق..."(3).
ثمة مراوغة لغويّة، إحالة الذات على الآخر، على ثقافة سابقة، يكون الإيقاع بضعاً قيّماً فيها، في كيانها المعرفيّ الاجتماعيّ الرمزيّ. يكون المصوت من الداخل، بينما هي حرفه الصوتيّ، كما هو الكمان: الثقافة، وهو انبعاث صوته، إنه اتصال بمن كانوا، حنين ما، رغم كامل أهليّة الغدق الحداثي في كتابته النثرية أيضاً ("ذاكرة للنسيان"، ومن ثمّ "في حضرة الغياب"، لاحقاً، أو حديثاً أكثر)، دخول في برلمان سلف ما، جماهيريّ، شعبيّ، كما هو تاريخه النضاليّ الأرضيّ، هو ما ليس هو، وإن كان هو الناطق، طالما أنه مأخوذ بسواه: ثقافيه، موسيقيّه، كما لو أن النثر خواف الشعر، والشعر ظنّ النثر السيء بذاته، شيطانه الرجيم، كما يمكن تسميته عطفاً على تاريخ حافل بالرموز، وفي الصدارة اعتبار الشعر ذا نسب شيطاني، لكنه لا يُسمى هنا. لكأن درويش ذاته، داخل صومعة السلف، وخارجه، كما هو اعتباره، حيث يكون الخارج بشعره، لكنه الداخل بعدّته الشعرية، مع كامل التقدير للنثر المعتمَل داخله. إنه بعد مركَّب، هجنة أخرى، في الوصل والفصل، أو هدنة مستمرّة بين توأمي اللغة، دون مناوشات ظاهرة، يمكن تلمّسها، أكثر من آخر داخل الذات، طباق من نوع مختلف هنا ثقافيّاً. إنه الآخر ليس في تعدّد مستوياته، وإنما حالاته كذلك، أو وضعياته، كما في الحياة والموت، في الدلالة والقيمة، في الحضور والغياب على صعيد المفردة الواحدة، في الجمع بين الذي ما زال يحيا، هو بركات، والذي رحل، وهو الحاضر الغائب، هو سعيد، والجامع الرمزيّ بينهما درويش، وفي هذا الثالوث، يكون كلّ منهم، حاضراً لقيمة ما، وليس الشخص ذاته، وإن كان درويش مفعّل الحدث، حيث يظلّ، في أقصى تجلّياته، وجهاً سرديّاً، سيريّاً شعريّاً أيضاً.
وربّما من هذا المعبر الحدودي - التوضيحي - يمكن إماطة اللثام أكثر، عمّا يشغلنا هنا: العلاقة المتشابكة، بين النصّين، ومن خلال الأمثلة المذكورة، تعيد الذاكرة المكانيّة، إلى المكان الذي يتحرّك درويش فيه، به، إلى الحدود المرسومة نفسها، وخطوط تقاطعاتها، وأماكن التلاقي والتقاطع بين المسموح به، والمحظور تلفُّظه عند درويش، لأنه واحد في الحالتين.







أ- درويش إزاء بركات: فسحة التلاقي
تأتي قصيدة "ليس للكردي إلا الريح"، مدماكاً شعريّاً في المعمار الأدبيّ الشعريّ الدرويشيّ، فأن تأتي مفردة "الريح" أكثر من تأكيد علامة فارقة، بعد أداة الاستثناء، ربما، كان ذلك أشبه بجرافة ثلج في يوم عاصف، لفتح طريق، لتأكيد كينونة اعتباريّة لكائن موجود، حيث الريح تتوزّع في الجهات كلها، لكنها الروح الكونيّة بدورها، الريح تمثّل النفخة الكونيّة، والكائنات الحيّة تعود إلى هذه النفخة، كما هي العلاقة بين الريح والروح والراح(4).
والريح تتوزّع في الجهات كافة، ولها تسميات وألقاب، بحسب الزمان أو الفصل أيضاً. أي أننا نجد أنفسنا، إزاء نزعة فولكلوريّة في الحديث عن الريح، وتداعيات المأثور الثقافيّ فيها. لكن السؤال الجدير بالتذكير بداية، هو: من أين استقى درويش هذا الاسم؟ هل هو من عنده، وأن مخياله مولّد المفردة، أو العنوان ذاته؟ لأن الكردي مفهومٌ نوعاً، ويمكن البحث عنه، والمساءلة حوله، بينما الريح غير محدّدة، نحسّ بها، ولا نراها، إنها ليست مكاناً، موطناً، كما هو الكرديّ المحكوم بالمكان، أو من المفترض أن يكون مشاراً إليه بمكان، محدّدة جهاته، ويعني هذا، أن الكردي منزوع الجغرافيا، إنه مقيم في اللامكان، لاجىء ما، حيث تكون الريح موجودة، وفي الوقت ذاته، إلى حيث تكون المخاطر موجودة، كون الريح، في هبوبها، تنفي الاستقرار.
ولا أدري، في ما إذا كان درويش، يريد الإفصاح عن وضع مأسويّ للكرديّ، أو إبقاء الريح قدراً يتلبّس الكرديّ حيثما كان، وحيثما يبقى، كائناً كون كيان، أو كياناً لا يحمل دمغة اسمه!
أكثر من ذلك: من أين استقى درويش كائناته التي هي مفرداته اللغويّة، والتي تشكّل في مساراتها الكبرى حكاية الكرديّ، إذ يسردها درويش؟ ألم تكن كتابات بركات مرجعاً له في ذلك؟
أشدّد هنا، على أن قراءة القصيدة هذه، لا يمكن أن تكون مفهومة، ولا بأي شكل، دون قراءة قصيدة بركات عن درويش، وجملة الإحالات المرجعية التي تهمس بما هو مفضَّل بركاتيّاً.
في الحالة الأولى، بصدد مفهوم الريح! تزخر كتابات بركات بالريح في وضعيات مختلفة. في قصيدة "مهاباد"، يقول:
"سأقدم هباتي،
فالريح وحدها، تسرق التين من راكض لم يقتطف التين"(5).
لكن الأكثر دلالة، ما يقوله في ما بعد:
"والريح؟ ما لها؟ من "مهاباد" إلى "مهاباد" أيضاً.
كأنها من " مهاباد" إلى "مهاباد"..." (دا، ص 303).
وربما، كان في الإشارة إلى درويش، في القصيدة التي تحمل اسمه، ما يفصح عن ذلك أيضاً: "فَسَم الملهاة عليه أن يرث الريح التي تتقاذف الكمال الموحش قِِلعاً قلعاً، كأنما - في الحنين الذي يتجرأ على كل شيء - لنحيل واحد، بأرز من السنابل، أن يضلل الريح" (دا، ص 312). وربما - أيضاً - كان في وسع السابر لخاصّيّة الريح البركاتيّة، أن يتحرّى سيرته، وما يقوله سائلاً ذاته، من خلال الريح: "أنت طفل، وما الذي يأسر الرياح فيك غير مدى مترع بالرياح"، والأكثر من هذا: "ونعتقد، بعد ذلك، اننا ولدنا من القشّ، وإننا سنصير إلى قشّ، وأن حدود الأرض هي حدود الرياح التي ستحملنا معها"(6)... إلخ، وأظنّ أن درويش قارىء أعمال بركات كلّها هنا.
لكن الأهم، هو أن درويش، يردّ على بركات، أعني أنه يردّ إليه جميله، وأن الكثير من المفردات المحبوكة بلغة الشعر، تكون مستلّة من القصيدة نفسها التي كتبها بركات عن درويش، سنة 1989، وهي تقع في عشر صفحات، مأخوذة بحمّى الإيقاع الداخليّ، وكثافة الصور، وعنفها كذلك، خلاف القصيدة الدرويشيّة، ذات الإيقاع الداخليّ، من جهة المعنى، والخارجي، وزناً، وهي من البحر الكامل، ربما، ليكون في وسع مساحة المتحرّك فيها، الاستجابة لشاعرها أكثر.
درويش، في مجمل قصيدته، يسخو، وهو يتحدّث عن الكردي التاريخي، الرحّالة في الزمان، المكابد لذاته وللعالم من حوله، للغة الأخرى، لصاحب الشعر، ومن يكون، مسلكاً وتمايز كتابة، وكيف يتبدّى لشاعره الآخر، هذا الذي يتحدّث عنه، منصّراً إياه بلغته المكتسبة، متحاوراً معه، ملتقياً إيّاه، خارج حدود القبيلة، إنما دون تحديد مكانه الذي يميّزه، كما سمّى مكان سعيد.
في وسعي إيراد مجموعة من المقاطع التي يمكن التوقّف عندها، بعد إيراد مقاطع أو جمل تخصّ بركات، في قصيدته عن الآخر، وأي هجنة دلاليّة، أقواميّة، شعريّة، تبرز حصيلةً.
يبدأ من الذاكرة، وهل سوى الذاكرة للكرديّ، ليعلم ما سيكون عليه غده، من خلالها؟
"يتذكّر الكردي، حين أزوره، غده...
فيبعده بمكنسة الغبار: إليك عني.
فالجبال هي الجبال. ويشرب الفودكا..." (عمّا، ص 159).
حيث الإحالة على الجبل، الذي طالما استدعاه الكرديّ، أو احتمى به، تكون رمزاً أو دلالة، كما هو الحجل مناصفة في الرمز، مع فارق المكانة. ولاحقاً نقرأ: "أنا المسافر في مجازي، والكراكي الشقيّة/ أخوتي الحمقى..."، مشيراً هنا، إلى ديوان بركات "الكراكي"، الذي صدر سنة 1982، ويقول:
"على درّاجة
حمل الجهات، وقال: أسكن أينما
وقعت بي الجهة الأخيرة...".
فنتذكّر هنا:
"جهاته جهات الزيزفون" (دا، ص 309).
نتذكّر:
"ومن كمثله سيدلّل للفكاهة حتى لكأن الجهات، درهم يتقاذفه الشحّاذون؟" (دا، ص 312).
نتذكّر (الفاصل الثاني "في ارتطام الجهات")، في "الجندب الحديديّ".
نقرأ درويشيّاً:
"[كلماته عضلاته. عضلاته كلماته]
فالحالمون يقدّسون الأمس، أو يرشون الغد الذهبي...
لا غد لي ولا أمس. الهنيهة
ساحتي البيضاء" (عمّا، ص 160).
فنتذكر بركاتيّاً:
"يا لنا، كم سنناديه في الحكاية التي تناديه وقد أثقلها العابرون برمادهم العابر. كما سنقاسمه النهب الذي يمسنا بأقراطه حينة ننحني مقبّلين فم الحياة الأبعد..." (دا، ص 311).
نقرأ درويشيّاً:
"منزله نظيف مثل عين الديك...
منسي كخيمة سيد القوم الذين تبعثروا كالريش. سجاد من الصوف
المجعد. معجم متآكل. كتب مخلدة
على عجل. مخدات مطرّزة بإبرة
خادم المقهى..." (عمّا، ص 161).
لنتذكّر بركاتيّاً:
"أعقاب لفافات تبغ قديمة نجت من مكنسة الخادم".
ومن ثم:
"طليقة رسوم السجاد، والتصاوير على الجانبين" (ص 305).
وكذلك:
"كتاباً كتاباً يفتح الجدار ذو الرفوف عينيه..." (ص 307).
نقرأ درويش في:
"يغنّي حين يدخل ظلّه شجر الأكاسيا" (عمّا، ص 162).
ونتذكّر بركات في:
"غدٌ يمضع اللبان كصبي نزق، فاتحاً أزرار قميصه الكشمير تحت شجرة الأكاسيا" (دا، ص 204).
يمكن أن نقرأ لدرويش:
"يفضّ بكارة الكلمات ثم يعيدها
بكراً إلى قاموسه، ويشوّش خيل
الأبجديّة كالخراف إلى مكيدته، ويحلق
عانة اللغة: انتقمتُ من الغياب" (عمّا، ص 162).
مثلما يمكن قراءة الكثير بالمقابل لبركات، مثل:
"في وسعه أن يتقرَّى المفاتيح الكبيرة التي تذوب في الأيدي، وأن يجر الغبار المحتشم إلى لهو محتشم..." (دا، ص 312).
يمكن أن نقرأ لدرويش:
"أنت الآن
حرّ، يا ابن نفسك، أنت حرّ" (عمّا. ص 164).
كما يمكن أن نقرأ لبركات:
"يا لحساب الفاتن للوحدة،
كأنما استثنى نفسه حين عدَّته الأرض على أصابعها التي توقظ الفروق" (دا، ص 313).
وكما يمكن أن نقرأ أخيراً، وليس آخرأ، لدرويش:
"فقال: لن أمضي إلى الصحراء
قلت: ولا أنا..." (عمّا، ص 164).
لنقرأ بالمقابل لبركات عن صاحبه الشاعر، وفيه:
"والهبوب الذي أنت فيه هبوب السنونو" (دا، ص 313)... إلخ.
الوارد من المقبوسات، أو المتقابلات، ليس في وارد الإحصاء الدقيق أو الحصريّ، بقدر ما هو محاولة الكشف الحدوديّة عن نقاط التداخل، عن التناص، وما يتجاوز التناصّ، كون محمود درويش، لا يريد تناصاً، إنما استثمار القاعدة الدلاليّة، للنصّ البركاتيّ، وتحويل المأثور عنه، إلى المأثور بالمقابل، كما لو أن مقايضة تتمّ، دون عقد مبرَم، فالعقد هنا وجدانيّ، والتعبير اللسانيّ، هو الذي يتكفّل بمهمّة إظهار ما يمكن للقارىء المعني تحرّي التفاوت، أو حالات التماثل.
بركات وجه اغترابيّ، منفاويّ، مأسويّ، مقاوم، كما هو درويش الذي برز وجهاً نضاليّاً، اغترابيّاً، منفاويّاً، مأسويّاً، ومقاوماً داخل النصّ الشعريّ، والمكان الجلي القدرة في الربط بينهما (نيقوسيا)، كما سمّى درويش هذه، ليكون الحديث عن جهات الأرض، والمعابر المقلقة، والغبار، والحنين إلى الجهة الآمنة، وحركة الرياح، والمنفى بأشكاله المختلفة... إلخ، تداعيات الذاكرة المكانيّة، مثلما هي أصول التواصل بين إنسانين، أمضيا معاً، الكثير من السنين، في مكابدة مشتركة، رغم اختلافهما جهويّاً، والمأساة هي التي وحّدت بينهما.
بينما تأتي قصيدة بركات، في تنوّع عناوينها، وطريقة الكتابة، في سياق مكاشفة ذات الآخر، تعظيماً لها، وفي الآن عينه، تجلّي ذات الشاعر بالمقابل، حيث الأمكنة أكثر، مثلما الجهات والمواقع أكثر، استجابة لروح التحدّي، ومن ثم المكانة التي يجلو فيها درويش. درويش هذا يكون (الساهر على فتوحه الممكنة. دا، ص 306)، بينما بركات، فكائن مختلف، كما قيل فيه سابقاً، وعلى لسانه (الهنيهة ساحتي البيضاء. عمّا، ص 160)، وذلك بسبب المفاجآت. وأظن أن درويش حين يقول في الكرد من خلال بركات: "الكرد يقتربون من نار الحقيقة،/ ثم يحترقون مثل فراشة الشعراء" (عمّا، ص 162) فإنه يستجيب لتلك الصورة الشعريّة التي أوردها بركات في "مهاباد": "كألم تتقدّم الأجنحة/ كألم يتقدّم الكرد إلى الحقيقة" (دا، ص 303).
المكاشفة القوليّة لمجمل المفردات التي تنبني بها القصيدة في الحالتين، تحيل الشاعرين على وضع وجديّ انهماميّ بالآخر، لكن المهم هنا، هو درويش، باعتباره محور الموضوع، وكيف أنه يوطّد جسر تواصله الوجدانيّ شعريّاً مع شاعر معروف، ما زال يحيا، له معه المديد من الذكريات، وحتّى صور التآخذ الشعريّة، كما تشهد الكتابة البركاتيّة، ليس بمعنى المحاكاة، إنما تفعيل الأثر الجماليّ للقصيدة، وبارقة الصورة المثيرة لمشاعر، لها تاريخها ووقائعها.







ب- درويش إزاء سعيد: التفكير بالشعر
آثرت وضع العنوان كهذا، لأن الذي كتبه درويش عن سعيد الحاضر الغائب منذ سنوات ثلاث، كان الفكر فيه حاضراً، كما لو أنه أراد الدفع بالشعر أماماً، داخلاً في بحر الفكر.
حيث سعيد ناقد أدبي، لكنه مفكّر، حتى وهو ينتقد النصوص الأدبية، ومن النوع الموسوعي الميتاحدودي، أو جمَّاع أمثلة، وهو يتحرّك في الاتجاهات كافّة، من ناحية النصوص المنقودة.
وفق تصوّر كهذا، تكون قراءة قصيدة "طباق"، داخل الديوان المذكور، مكاشفة عتبة سرَّانية، عتبة قدسيّة، كما هو زهر اللوز "عصا هارون أزهرت وأنتجت زهور اللوز، وبدون إخصاب، الثمار المناسبة. والشروط نفسها، كان للعذراء، ثمرة، هي للطفل يسوع"(7). يأتي الطباق وفاق تصورات اثنينيّة، لكنه اختراق للسائد، كسراً للقاعدة المعتمدة، من ناحية المفكَّر فيه، كما النموذج سعيد، في ما ميَّزه نقديّاً، وكمفكر عالي الطراز بمنظومته النقديّة المتعدّدة في أصولها الفلسفيّة والمذاهبيّة والثقافيّة، تأكيداً على فتنة الهجنة، ونكهة الطباق المثلى. درويش، ما كان يعنون قصيدته بـ"طباق"، إلا لأن ثمة ما كان يردّ إلى نفسه، ما قرأه في كتاب مرثيه المذكور: "إننا في حاجة إلى منظور مقارن، أو بالأحرى طباقيّ (في معنى الطباق الموسيقي) كي نبصر علاقة بين طقوس التتويج في انكلترا وحفلات البيعة الهنديّة في أواخر القرن التاسع عشر..."، وفي مكان آخر، وللمزيد من التوضيح: "وبمعنى هام، فنحن هنا، نتعامل مع تشكّل هويّات ثقافيّة تُقهَم لا بوصفها تجوهرات (تقليصيّة اختزاليّة)... بل بوصفها مجموعات طباقيّة"(8).
ما يمكن استقراؤه في القول السعيديّ، هو الآتي: استحالة النظر في الثقافات باعتبارها تناحريّة، تضادّيّة، إنما تتكامل في ما بينها. استحالة التفريق بين الشعوب، بمعايير عرقيّة، عنصريّة فصليّة مطلقة، إنما تاريخيّة نسبيّة. استحالة النظر إلى الكائن باعتباره مجرّداً من أصول بيئيّة وثقافيّة مؤثّرة فيه، وبإطلاق، إنما قابليته للأخذ من بيئات وثقافات مختلفة، كما هو وضعه، وداخل مفهوم التنوّع.
هنا لا يكون الآخر إلا صفة لذات ما، وليس الغريب الخارج عنها، مكمّلها، وليس المعادي لها، كما كان سعيد الفلسطينيّ في أميركا، في المجتمع الأميركيّ المتنوّع في أصوله.
أما درويش، فهو يقرأ سعيد، كما لو أنه قارئه، لكنه يمارس إنتاجاً شعرياً في الأرض السعيديّة، ومن داخل البؤرة الشعوريّة الخاصة به، كون إدوارد سعيد ذا الدلالة الرمزيّة، حقل تمرير مؤثّرات، كما هو حقل تجاذبات لرؤى عابرة للحدود، للثقافة الواحدة، وكأني به (درويش)، يمارس دحضاً لكلّ طهرانيّة أجناسيّة، أو من يريد التقدّم بمناقب حكراً عليه، مثلما هو صراعه مع أيّ نقيض له.
وفي حومة النزال المعتقديّة، وباسم الشعر، تكون المكابدة النفسيّة، وعنف المواجهة، في أرض فسيحة، غير مستقرّة، عبر سعيد الشخصيّة المفهوميّة، والرمز الحدوديّ، وما يعبره دلاليّاً.
المسافة الجغرافية واسعة، تمتدّ ما بين القدس الرمز الأكثر هيبة، ونيويورك؛ حيث كان الراحل يقيم ويدرّس، ليكون التاريخ مفتوحاً، بمشاهد، تتلاقى لأداء مهمّة شعريّة أساساً:
"نيويورك/ نوفمبر/ الشارع الخامس/
الشمس صحن من المعدن المتطاير/
قلت لنفسي الغريبة في الظلّ:
هل هذه بابل أم سدوم؟"(9).
لنتذكّر التوصيف المكاني هنا، العنوان المشار إليه، التاريخ بدقة، لكن الموقف من المدينة، عالياً ودانياً، كما هو المقروء لدى كثيرين (لوركا، غوركي، أدونيس، بودريار...).
وربما كانت (باب، سدوم)، تذكيراً بمن أباح نهب نيويورك، تجريدها من كلّ أهليّة بقاء توحيشها، أي نزع صفات الأنسنة كلّها عنها، رغم أن سعيد أبدع كتابةً فكرية، وهو فيها.
أتذكّر هنا بودريار العدو اللدود لحداثة تكون نيويورك رمزاً جليّاً لها (فنيويورك هي كينغ كونغ، أو البلاك - آوت)، وكذلك: "إننا في كون شطّور، أطواف جليد رضراضة، انسياقات أفقية..."(10).
بودريار الذي أسمّيه هنا، يكون داخلاً في الإنتاج الشعريّ لدرويش، هو صوت من أصواته، إذ يرفد المعنى الميتاحدودي، مستنفِراً ذاته، والآخر الذي لا يني يتجدّد في كلّ علاقة له مع اللغة، طالما هو منذ احترافه كتابة الشعر، أو شعوره أن لديه هذا الشعور بكينونة لغة، تعنيه في ما هو فيه، في عالم يتداعى في صميم مبادئه الكبرى، الآخر هذا مستدعى باستمرار، لأنه حليفه في بعض منه، حتى وهو المرفوض من قبله، لأنه يشكّل عنصراً دامغاً في كتابته، ويبقى مختلفاً، حتى إن بدا ملحوظاً برغبة توددِ كذلك، لأنه مترجَم في وضع ما.
بودريار مقروء درويشيّ، حتى إن لم يبدُ عليه أنه قرأه، كونه يستحضر إلى الذاكرة القريبة، صداه المجلجل نيويوركيّاً، وهو التنويريّ ضدّ التنوير المعتمد، والراحل قبل فترة قريبة. أعني بذلك، أنه مكمّل طباقيّ، مثلما هي حالة شعريّة تخفّف وطأة اللغة الأكاديميّة، وحدة التنظير الفكريّة عند سعيد، حيث درويش يعود إلى ما كان، وهو مواطن الآن الذي كتب فيه نصّه.
بابل أو سدوم، تجريد للمدينة الموسومة، من كامل قيافتها المعلنة، وحتّى ممارسة لعنة لها، كون السؤال هو تعبير نافذ بمتضمَّنه الدلاليّ، أكثر من التعبير المباشر ذي الاتجاه الجلي:
"هناك على باب هاوية كهربائيّة
بعلوّ السماء التقيت بإدوارد
قبل ثلاثين عاماً،
وكان الزمان أقلّ جموحاً من الآن
قال كلانا:
إذا كان ماضيك تجربةً
فاجعل الغد معنى ورؤيا!" (ص 179).
المنجَز الحضاري التقنيّ، ينقلب إلى مشهد شؤمي، مثلما رحابة السماء، وهي داخلة في الصورة الشعريّة، أشبه بنعي لكلّ المكوّن الجمالي للمعنى الأولي، والذي يقارب المفهوم، لأن المكان شرط إقامة المفهوم المستخدَم، في التلوّن باللون نفسه الذي يحصر الحواس داخله. ويتقدّم الاسم ذاته، صاحب "تأمّلات في المنفى"، هذا الطباقيّ، بشرط قيميّ، شخصيّ، يضفي على العلاقات النصّيّة طابعاً حِداديّاً، استمراراً للصفة البابليّة أو السدوميّة وشيكة التبدّد، خلاف شاعره الذي لم يسمَّ أبداً، إنما ذُكِر في ما يسمّيه، من خلال استعارات أدبيّة وجمل تستظهره. وهذا الشعور بالآخر، بإدوارد، يجلو خاصّيّته بوضوح مباشر، كما لو أن الشعر يتودّد إلى الفكر، إلى مفكّر الشاعر، ويتغزّل به بلغته، إذ يبسّط عالمه، رغبة في حوار يمتدّ أماماً، يكون الشعر مستسلِماً لرغبة الآخر، من خلال الكلمة المقروءة (إذا كان ماضيك تجربة)، وما يليها، حيث الشعري مأخوذ بحضور الآخر، في التعبير، تأكيد مقام له.
لنلاحظ ما أبدعه درويش قبل ثلاثين عاماً، ما قاله في راشد حسين الشاعر الفلسطينيّ، ومن المكان نفسه، وكيف برز الشعر مأخوذاً بشعر الآخر، ترجمة مختلفة، لأن الاسم مختلف:
"في الشارع الخامس حيّاني. بكى. مال على السور
الزجاجي، ولا صفصاف في نيويورك.
أبكاني. أعاد الماء للنهر. شربنا قهوة. ثم افترقنا في
الثواني.
منذ عشرين سنهْ
وأنا أعرفه في الأربعين
وطويلاً كنشيد ساحليّ، وحزين
كان يأتينا كسيف من نبيذ. كان يمضي كنهايات صلاهْ
كان يرمي شِعره في مطعم "خريستو"
وعكا كلّها تصحو من النوم
وتمشي في المياه
كان أسبوعاً من الأرض، ويوماً للغزاهْ
ولأمي أن تقول الآن آه!"(11).
إن كلّ المفردات التي قد تشي ببساطة اللغة اليوميّة، أعني العاديّة، محدودة ("منذ عشرين سنة/ وأنا أعرفه في الأربعين" مثلاً)، ليس لأن الإيقاع مجنّبها وجه العادي فيها، إنما مجمل المتشكّل ببهاء الشعري، حيث الحواريّة الظاهرة تبقي النصّ في حالة حركة؛ حركة تلاقي الجهات، الأمكنة، توارد الخواطر، في التقابلات، في التغيير لما هو مكانيّ. "ولا صفصاف في نيويورك"، عبارة توصيفيّة، لكنها قيمة اعتباريّة، لا تحيل على ما هو جنائزيّ مهدّد للمكان، كما في المتحدَّد بصدد سعيد، أو إدوارد، كما يسمّيه الشاعر، لاختلاف الزمان، لكنه لاختلاف الكائن، رغم مرور ثلاثين عاماً، حيث الشعر طليق بأفقه المفتوح والشفيف.
درويش، يسرد لقارئه ما يعنيه في سعيد، في المكان، وكيف يخرج المكان هذا من مكانه، تابعاً لما هو شعريّ، إنه بعد سِيَريّ، مثلما حديث عن سعيد في بعض من أحواله وصفاته، أعني، أن محمود درويش يترجم الآخر المتداخل معه، بالطريقة التي تجعل منه كائناً شعريّاً وهو مفكّر هنا:
"نيويورك. إدوارد يصحو على كسل
الفجر. يعزف لحناً لموتسارت. يركض
في ملعب التنس الجامعي. يفكر في
هجرة الطير عبر الحدود وفوق الحواجز.
يقرأ "نيويورك تايمز". يكتب تعليقه
المتوتّر. يلعن مستشرقاً يرشد الجنرال
إلى نقطة الضعف في قلب شرقيّة.
يستحمّ. ويختار بدلته بأناقة ديك.
ويشرب قهوته بالحليب. ويصرخ
بالفجر: هيا، ولا تتلكأ"(ص 182).
هذا المقطع في كامله، يتبدّى متابعةً بصريّة وصفيّة لنشاط مفكره، كما لو أنه تقرير عادي ليس إلا، ولا يرفع من شأن العادي فيه سوى جملتين فقط، بداية ونهاية علاقة (كسل الفجر، ويصرخ بالفجر)، وما تبقّى، يظل في حدود اللغة العادية، لكن المبتدأ والمختتم، يرفعان من سويّة القيمة العادية للغة هنا.
يقرأ "الاستشراق"، و"الثقافة والإمبرياليّة"، و"تأمّلات في المنفى"... إلخ، كما تقول الصياغة الأدبيّة: الشعرية له، لمجمل عوالم سعيد، يقرأ مفكره، في ما يميزه: ألماً وأملاً، وهو يفيض كثيراً بالكلمات التي لا تخلو من تكرارات ملحوظة، ربما لأنه مأخوذ بمفكره، بحالة تجاذب وجدانيّة، وهو يعيش مكابدة الآخر: آخره الوطنيّ، المنفيّ، آخره الاعتباريّ، فلسطينيه المعتبَر. يبعث الأمل لاحقاً:
"لا غد
في الأمس، فلنتقدّم إذاً/
ولكن ثمة مخاطرة وتحذيراً:
قد يكون التقدّم جسر الرجوع
إلى البربريه..."(ص 180).
أستعيد هنا، ما قيل في الكرديّ، عنه، وهو يربط بين كلمات بركات وعضلاته، وبالعكس، بنوع من المشهديّة الاستعراضيّة أحياناً، كما هو معروف به بركات خارجيّاً، إذ يقول بعد ذلك شرحاً:
"فالحالمون يقدّسون الأمس، أو
يَرشون بوّاب الغد الذهبي...
لا غد لي ولا أمس. الهنيهة
ساحتي البيضاء..." (عمّا، ص 160).
ثمة تداخل في الحالتين، سوى الاختلاف في الاسم، من جهة التذكير به، والشاعر يقول ذاته، في موقف منها، أو لها، إذ يعاين الآخر في ذاته هذه، أو يعاين ذاته في الآخر.
وربما هي محاولة منه في الربط بين العوالم، دخول في الذات، ومضيٌّ مع اللغة وهي تنساب به، وليس معه، إذ يستسلم لذاته، كما هو المقروء هنا أو هناك، أو في أمكنة أخرى، حيث الصورة الشعرية تكون واجهاتيّة، كما لو أن درويش، لا يريدها إلا هكذا.
قصيدة "طباق" شرحيّة، تستعيد مفارقاتها، في التكرار كثيراً، وأرى أن محمود درويش، كان أقلّ شعراً في ما يخصّ مفكره، كانت مساحة الشعر، رغم وساعة المكان (أكثر من ثماني عشرة صفحة، كما ذكرت)، أقلّ اعتناء بمفردته الشعريّة، إلى درجة أن النثريّ عنده، وهو مألوف، خالف شرطاً آخر في انسيابيّة اللغة، لأن ثمة معاودة ذات الشيء، رجوعاً إلى المعنَّى، ليس لتأكيد عنف، يؤكّده التكرار، إنما هو عنف الذات في ما تتجاهله. عنف الآخر في الذات، وهي تكرّر المعنى بتغيير المفردة، فيضحل أثر الشعر، مثلما يتعثّر النثر الموزون هنا، ووساعة المساحة تضيق بكائنها:
"على الريح يمشي. وفي الريح
يعرف من هو. لا سقف للريح.
لا بيت للريح. والريح بوصلة
لشمال الغريب"(ص 182).
حسنٌ، إذاً، "ليس للفلسطيني إلا الريح" أيضاً، طالما الريح تتقدّم الفلسطينيّ، تعرّف به، وهو المنهمُّ بها، طالما الريح لها مكانتها هنا، كما الحال مع بركات، أو الكرديّ في عمومه.
درويش يسكن الريح، لكنه إذ يبدّل في المفردة، يشرح، أكثر مما يجب، إذ "لا بيت للريح"، تفي المرغوب، تستغني عن "لا سقف للريح"، لكأن تكرار مفردة "الريح" دخول أقصى في الحالة الشعريّة، وتعميق لها، لكنها نسيان للحالة الذاتية، في تداعياتها، في تكرار غير مريح هنا.
لنلاحظ:
"يقول: أنا من هناك. أنا من هنا
ولست هناك، ولست هنا
ليَ اسمان يلتقيان ويفترقان
ولي لغتان، نسيت بأيهما
كنت أحلم،..."(ص 182).
طبعاً، وبداية، يكون القائل درويش، وليس إدوارده، أو سعيد، إنه مقوّله ليس إلا. ومن ثم، ماذا يعني حضور القوائم الاسميّة والجهويّة، سوى الشرح ذاته؟ اللاجهاتيّة المحدّدة، وجود الاسمين، هما وجود اللغتين، هو الطباق، هو التعدّد:
"أنا المتعدّد. في
داخلي خارجي المتجدّد"(ص 183).
وهو شرح وتكرار، ومن ثم:
"ومنفى هو العالم الخارجي
ومنفى هو العالم الداخلي"(ص 184).
استعادة ما لما سبق، وشرح آخر له، وأيضاً:
"أنا اثنان في واحد
كجناحي سنونوة" (ص 184).
وربما يتصدّى لهذا الإجراء من يقوعده، ويبرّره، بدعوى أنه انتقال من وضع إلى آخر، وترتيب لخاصّيّات المكان والحالة، إبراز للتواصل بين الأنا والآخر، لكنني أتلمّس في المقروء خلافاً، وأنا أشهد على أن هذا اللون - الضرب من التكرار والشرح، لا يقيم للشعر قائمة جاذبة. وأن الانجذاب لـ"المتقارب": البحر المعتمد في كتابة النصّ، إذا كان يحافظ على سويّة المسافات القائمة بين الصور وهي تتتالى، فهي في الجلي فيها، مسافات ضيّقة، من جهة الرؤيا الشعريّة، لأن الذاكرة مأخوذة بلغة الآخر مأسوياً، كما لو أن فعل الشرح والتكرار، إخلاص لجرح الذات:
"هنا هامش يتقدّم. أو مركز يتراجع
لا الشرق شرق تماماً
ولا الغرب غرب تماماً
لأن الهوية مفتوحة للتعدّد
لا قلعة أو خنادق" (ص 185).
هنا نجد الآتي:
طالما أن الهامش يتقدّم هنا، فإن هذا يعني أن ثمة حركة في المركز لمصلحته، إن أحدهما شرح للآخر، في الوضع الطباقيّ.
الحديث عن لاتماميّة الشرق، كصورة شعريّة حديث عادي، وتكون العبارة الآتية استكمالاً من ناحية، لكنها لا تكون في مستوى جدّة الأولى، من ناحية أخرى. لتكون عبارة "إن الهوية مفتوحة للتعدّد"، خلاصة ما تقدّم، لكن التالي يكون تكراراً مألوفاً سابقاً، وهذا شرح من جهة أخرى أيضاً، ويعني هذا بالمقابل، أن "لا قلعة أو خنادق"، شرح إضافيّ، توضيحيّ آخر، لا لزوم له إطلاقاً، إلا لأن ذات الشاعر تعيش هاجس الآخر كثيراً. ويقيني هنا، أن الشاعر كلما لجأ إلى الماضي، إلى الطفولة، برز الشعر أكثر يفاعة ووساعة أفق، ولعلّي أستطيع القول إن حديث الشاعر عن مفكره، وهو يسائله عن بيته، عن أمسه، ربما يشكّل بؤرة التوتّر الشعريّة القصوى في التذكير بالآخر، في ترجمته شعراً استقطابيّاً، وبعد سطور أربعة:
"وحاولت أن أستعيد ولادة
نفسي، وأن أتتبّع درب الحليب
على سطح بيتي القديم، وحاولت أن
أتحسّس جلد الغياب ورائحة الصيف
من ياسمين الحديقة. لكن وحش الحقيقة
أبعدني عن حنين تلفَّت كاللص خلفي..." (ص 190).
وتأتي الخاتمة في القصيدة انفتاحاً على معهود درويشيّ في صناعة الألم الشعريّ:
"نسرٌ يودّع قمّته عالياً
عالي