الخميس، 28 فبراير 2013

سفينة


تصمت ...تعتكف ، تغوض ، تغرق تماما ، يقف بيني وبينها ، يمنع عقلي من العوم، ويستسلم له عقلي راغبا، لتغرق أكثر،  وتسبح في ذلك الغرق، وتنجذب قدماها للأرض، بل كل عضلات رجليها كحديدتان نحو الأرض، لا تقاوم ذلك الجذب أو لا تعرف ان كانت تستطيع تلك المقاومة أم لا، تشعر بغصة في حلقها، وأنها لا تعرف غير الزحف أو الغرق ، يمنعها عقلها من الوثب، ترفض كسر الجدران التي تضعها، والتي لا يراها الآخرون أو يتجاهلونها، غريب أمرها ، لا تقاوم الغرق، تبحث عن أياد حولها لتساعدها ، رغم قوتها الظاهرة، رغم عنفوانها، رغم كل شئ ، لا شئ يتحرك، عقلها لا يقتنع بأنه المنجاة، وروحها تمتنع لغلاظة الجدران.
تتوقف ...تتوقف...ترفض كل شئ ...تنكر الواقع...تشعر به ينهار اهمالا...وتتوسل اليقين
اعتادت تلك الخطوات ، غالبا تسير بها وليست تخترعها، تنطلق قدماها حرة منها ، نحو النهر، وهناك تتأمله وتشعره يشكو حاله، لقد انتهكت خصوصيته مئات الآعين التي تتربص به من ارتفاعات شاهقة، ومعاول تجز الظلال علي امتداد كورنيشه، ثم لا تحفل به ملايين الأنفس التي تغدو فوقه عابرة ربما كل يوم في حياتها بدون أن تشكره يوما، وبدون أن تتأمله وتحنو بنظرة حانية أو حزينة علي تغير حاله، أو آسفة علي تسميمه بما لا نحتاج. ثم إمعانا في اللامبالاة بأمواجه التي تنمو بها أجسادنا، تجتاحنا عصبية وتحيز ليس فينا حتي أوشكنا أن نكفر مائه لعذوبته الزائدة وصبره علي الجحود.
مددت يدي أحاول الإمساك بأشعة الشمس التي تبرق علي أمواجه ثم تذوقتها، كنت أحاول السير وذلك أرهقني حتي العطش، فارتويت قليلا منه، لعل النور ينفذ فيا، وخاطبتني تلك القطرة أنها ترغب في إتمام وجودها إما لتعود للبحر أو لتعود فكرة أو روحا، فكان عطشي سببا لاختيارها الطريق الثاني، ولأن صداقتنا كانت أزلية فقد شعرت بها بداخلي تلك القطرات
كأنها نهر ينساب بي ، ويذيب الزحف ، نعم أشعر به ينساب ببطء وبثقة بالحياة ، يدخل الغرفات المظلمة لتنير، ويتتتحرك أناملي بحرية وبعنفوان بسببه، ويخف الشعور بالثقل في قدماي تدريجيا، ما كل ذلك أيها النهر ؟
انعكس اتجاه التيار النهري فجأة بداخلي،  لينساب مرة أخري لأعلي، نحو عقلي مارا بقلبي، لأرتفع عن الأرض، ورأت النهر غاضبا يثور ويثور...يقتلع كل شئ، تجري أمواجه في غضب عكس مصبه ، مشهد غريب ومخيف ومبشر في آن واحد، كأنه أراد أن يعود أدراجه نحو مصبه في أثيوبيا، حاملا فيه كل ما لا يجب أن يصل للمنبع ملوثا ، يريد التخلص من أدرانه التي لا ذنب له فيها غير أنه يسير بلا كلل، نعم نعم أسمعه متجهما لن أتركهم يعبثون ، تعلو أمواجه عاليا ، وتغرق المدن في طريقه ينتقم ممن كانوا يرمقونه من علو بلا ولاء، وممن عبثوا بماء الحياة بداخلهم...
أين النجاة الآن ؟ لقد أخبرتهم أن لا سفينة إلا واحدة، تتهاوي في مشهد عبثي كل الصروح والمباني ،والأشجار، كل شئ يتفكك إلي أشاء مبعثرة عبثية تتهاوي الأشياء بلا قيمة فقدت قيمتها لأننا فقدناها ، نادرة ومخيفة لم يتخيلها أحد، لأنهم لم يخشوا شيئا ، معجزة أن تنجو من الإنهيار بلا انهيار، من خلف زجاجها السميك أشاهد السقوط ،ونعبر من بين انهيار الزلازل المتعاقبة والفيضانات ومن بين العصور، وعندما أقف في مقدمتها أري سماءا رمادية وأفقا رماديا وعواصف قادمة، لا أدري ما العمل لا أحد يري العواصف ومهما تحدثت لا يصدقون، كيف أعمل وأنا أقترب تدريجيا وأري بالعين المجردة مخاطر غريبة، أحاول إيقاظهم، وأحزن، لتعبري بي وبهم بسلام...

مي حواس
28-2-2013